ثقافة في لقاء من تنظيم جمعية "نشاز" حول الاعلام والمسألة الديمقراطية: من يخلّص الصحافة التونسية من براثن السياسة وهيمنة اللوبيات والأفاريات؟
رصد المشاركون في لقاء من تنظيم جمعية "نشاز" حول الإعلام والمسألة الديمقراطية عددا من المحاور الهامة في علاقة بواقع الاعلام التونسي اليوم وببوادر إصلاحه. ولاح من خلال تدخلات كل من الأستاذ بمعهد الصحافة العربي شويخة وهشام السنوسي عضو الهيئة العليا المستقلة للاعلام السمعي البصري ومحمد اليوسفي الصحفي وعضو النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين والصحافية والناشطة في المجال الحقوقي هندة الشناوي انّ المشهد الإعلامي التونسي يشكو من عدة مشاكل منها سطوة السياسي على الإعلامي حتى باتت الصحافة التونسية تحت هيمنة الأحزاب السياسية والاجندات المشبوهة فضلا عن غياب شفافية مصادر التمويل ومحاولات ضرب الحريات من قبل من لا يريدون للكلمة ان تكون حرّة وغيرها من الإشكاليات التي تطرق اليها المتدخلون في هذا اللقاء الذي انتظم يوم السبت 6 جوان بمقر جمعية روزا لكسنبورغ بحضور محدود العدد تماشيا مع محاذير جائحة الكورونا.
في المسؤولية الاجتماعية للصحافيين ومسؤولي قطاع الاعلام
تطرق الأستاذ العربي شويخة والذي كُلّف بإدارة الحوار الى أهمية وحساسية الاعلام في الفترات الانتقالية الى درجة أنه بقدرته أن يُنجح تلك الفترة او يُفشلها. وقال ان هناك مسؤولية اجتماعية للصحافيين وكل مسؤولي قطاع الاعلام للمساهمة في إنجاح المسار الانتقالي مضيفا: "في تونس ونحن في انتظار الاحتفاء بالعشرية الأولى لاندلاع الثورة، يمكن الجزم بأنّ الاعلام يطغى عليه الغموض ووضعيته معكّرة ومن الصعب تفكيك المنظومة الإعلامية وفهمها من الداخل وهذا بحكم 3 أسباب وهي:
-غياب إرادة واضحة وحازمة لكل الحكومات المتتالية لبث روح جديدة من خلال تنقيحات واصلاحات جذرية في قطاع الاعلام.
-كل القوانين التي تم وضعها منذ 2011 لتنظيم القطاع هي ذات هندسة متغيرة يعني انها ليست قوانين واضحة ذات تفسير واحد بل يحاول كل طرف ان يطبقها حسب رغبته.
-غياب آليات التعديل الذاتي مثلما هو الحال للصحافة المكتوبة والالكترونية حتى اننا مازلنا ننتظر انجاز مجلس الصحافة مع الإشارة الى الصعوبات الكبيرة التي تجدها الهيئة العليا المستقلة للاعلام السمعي البصري للقيام بمهامها التعديلية.
غياب وتردد الحكومات المتتالية في مواجهة الدخلاء عل القطاع
وأشار لعربي شويخة الى التصنيف الأخير لمراسلون بلا حدود الذي صنف تونس من بين الدول الأفضل في المنطقة العربية في مجال احترام الصحافة لكنه اعتبر ان هذه الحرية لا تزال هشة وضعيفة وتحت تأثيرات متقاطعة أولها اقتحام رجال الاعمال والفاعلين السياسيين في قطاع الاعلام وخاصة منه السمعي البصري، وهذا ما لاحظناه في الانتخابات الأخيرة. وثانيا غياب وتردد الحكومات المتتالية في مواجهة هذه التدخلات من الدخلاء عل القطاع وهو ما يمثل خطرا كبيرا على استقلالية القطاع فضلا عن الغموض الذي يشوب مصادر تمويل وسائل الاعلام. وذكر شويخة ان هناك تعبيرا مجازيا في الغرب يقول ان الوسيلة الإعلامية يجب ان تكون مثل البيت البلوري (Une maison de verre) أي في اطار شفافية تامة بالنسبة لمصادر تمويلها وخطها التحريري وأجور صحافييها لأن اساس كل وسيلة إعلامية هي المصداقية، والمصداقية لا تحددها نسبة المشاهدة بل ضوابط معيّنة يجب ان تكون شفافة.
وأكد شويخة مرة أخرى على أن الغموض الذي يرافق مصادر التمويل يهدد بصفة مباشرة استقلالية وسائل الاعلام فضلا عن عوامل أخرى مثل مشروع القانون الذي قدمته مؤخرا كتلة الكرامة والذي يهدف الى منع وجود مؤسسة تعديلية ويسمح للقنوات التي لا تتوفر لها صبغة قانونية للبث بكل اريحية وهذا ما يخالف تماما المنظومة الديمقراطية وفق تعبيره.
غياب الثقافة الديمقراطية
كما عرّج شويخة على غياب الثقافة الديمقراطية التي تفتقد الى البعد التاريخي والاجتماعي في مجتمعنا والذي فتح الباب للدخلاء وللتناقضات معتبرا انه كان على وسائل الاعلام والتعليم ان تنشر و"تحقن" كل طبقات المجتمع بهذه الثقافة الديمقراطية. وقال شويخة ان المشهد الإعلامي التونسي يتميز بالخلط بين دور الاعلام ومفهموم التعديل المؤسساتي والدفاع عن مصالح شخصية مرتبطة بمؤسسات مالية او دينية او سياسية او جهوية.
عن الاعلام البديل ودوره في المسار الانتقالي الديمقراطي
اما الصحفية الناشطة في مجال الصحافة البديلة هندة الشناوي فأشارت الى تشعب المشهد الإعلامي التونسي الذي يطغى عليه التمويل السياسي والأجندات السياسية خاصة في الاعلام الخاص. واعتبرت الشناوي ان اصلاح الاعلام كان في معزل من المجتمع المدني وان الاعلام البديل مثل نواة وانكفادة وانحياز وانسان لا يتمتع بدعم من المجتمع المدني او من القوى الحية او الحركات الاجتماعية ضاربة مثال "وثائق بنما" التي لم تحظى بالاهتمام والدعم الكافي. وقالت ان مسألة الثقة في وسائل الاعلام مطروحة حتى ان الجمهور اصبح يأخذ حذره ويدرك ان هذه القناة او تلك تتبع هذه الشخصية السياسية او الأخرى.
وأضافت الشناوي انّ الاعلام البديل قام بدور كبير منذ 2011 في عديد من الملفات بفضل الصحافة الاستقصائية واكتشف التونسيون اعلاما جديدا على الانترنات لكنه يعرف تراجعا اليوم وهو منحصر في محيطه الأول الأكاديمي أو النضالي أو المدني. ونادت الشناوي بضرورة تصورجديد وان يطرح الاعلام البديل على نفسه أسئلة في علاقة بجمهوره وبإيصال المعلومة بطرق مستجدة (لايف، تويتر، ستورئ على الانستقرام، الخ). واعتبرت المتحدثة ان على كل صحافي وقاعة تحرير ان تسأل هذه الأسئلة اذا ارادت ان تحسّن من طرق تواصلها مع الجمهور. كما عرجت على أهمية صحافة المواطنة وأيضا دور الصحفي المحلي المناضل الذي يدافع عن قضايا مختلفة ويكتب تقارير صحفية جيدة لكنه يتعرض للضغط اكثر ممن هم في العاصمة مضيفة: "هناك صحافة بديلة لكنها لا تُرى بالشكل الكافي.. تتعرض للتضييقات وللهرسلة وتفتقد للتضامن والمساندة".
بين سندان رداءة المنظومة السياسية واصطفاف المنظومة الاعلامية
من جهته قال الإعلامي وعضو نقابة الصحافيين محمد اليوسفي ان المجلس النيابي الجديد يعكس رداءة المنظومة السياسية بشكل عام واصطفاف المنظومة الإعلامية، اذ ان نظامنا الانتخابي يقوم على مبدأ "قطوس في شكارة" فيصعد الى مجلس النواب "الكناتري" ويصعد معه "الشيخ" الذي لا علاقة له بالسياسة فيتحدث باسم الالاه والدين ويكفر ويشيطن ويخوّن الناس رغم انه لم يتمتع بحضور اعلامي سابق. واعتبر اليوسفي ان الاعلام اثر في الانتخابات الأخيرة لكن ليس بالشكل الإيجابي المطلوب وذلك مع تثمين المكاسب ومجهودات الصحافيين والمؤسسات الإعلامية التي قامت بدورها.
وقال اليوسفي: "المشكل يتمثل اليوم في منظومة برمتها أدت الى مشهد سياسي -يُعنى بالشأن العام- مختل ويشوبه الكثير من الفساد الى درجة انها ساهمت في افساد الانتقال الديمقراطي، فالكل يعرف ان القنوات التلفزية مصطفة (قناة التاسعة كانت الذراع الإعلامية لتحيا تونس ويوسف الشاهد وقناة الزيتونة دعمت النهضة والحوار انتقلت من أكبر داعمي يوسف الشاهد الى دعم المترشحين للانتخابات الرئاسية الزبيدي والقروي، وما يراج أنه كان هناك وعد من قبل الشاهد لتسوية وضعية الملف القضائي لسامي الفهري، ولما لم يحدث ذلك أصبحت عداوة وارتمت القناة في معسكرآخر)". واعتبر اليوسفي انه يجب فك الترابط بين السياسي والمالي والحزبي والإعلامي والا فانّ الحديث سيبقى دون ذات جدوى.
بين تزييف الوعي والشعارات الممجوجة
وقال اليوسفي انه دون الاستنقاص من دور الاعلام، فانه تم تزييف الوعي الانتخابي وافساد العملية الانتخابية ليبقى التونسيين بعيدين عن القضايا الحقيقية وعن النقاشات في العمق مضيفا انه بعد 10 سنوات عن الثورة، حاد الاعلام عن دوره في الاخبار والانارة. وقال اليوسفي: "اعتقد ان الافتخار بأن تونس الأولى عربيا في ترتيب حرية الصحافة (في المرتبة 72 دوليا والأولى عربيا)، هو مكسب لكن لا يجب ان نغتر به، فمن المنطقي ان يكون ترتيبنا افضل من مصر السيسي وتركيا اردوغان ودول الخليج التي ليس لها تقاليد في حرية التعبير والصحافة، اما في دول عربية اخرى فهناك تلفيق قضايا واعتقالات.. آن الأوان لكي نتقدم بقطاع الاعلام لأن شعار حرية الصحافة يكاد يتحول الى أدلوجة ممجوجة ، فحرية الصحافة ليست شعار بل منظومة قانون فيها البيئة المهنية والاخلاقيات والمضامين والجودة وقد تركت هيئة اصلاح الاعلام وثيقة يمكن اعتمادها.. الاعلام في علاقة مباشرة بالمسألة الديمقراطية وهو أيضا مسألة مجتمعية".
من سطوة وكالة الاتصال الخارجي الى هيمنة اللوبيات السياسية والافاريات
وأشار اليوسفي الى أهمية إرساء مجلس الصحافة كألية من آليات التعديل الذاتي حتى نخوض معارك حقيقية لأخلقة القطاع الإعلامي، فقطاع الاعلام ولئن قطع اشواطا في مجال حرية الصحافة، فإن هذه الحرية استفاد منها اعداؤها اكثر من المؤمنين بها والناس الذين ناضلوا من أجلها. وقال: "في تقديري، الاعلام انتقل من سطوة وكالة الاتصال الخارجي الى هيمنة اللوبيات السياسية والافاريات والمصالح الحزبية وما الى غير ذلك حتى ان الجمهور اصبح غير قادر على التفرقة بين الصحافة الجيدة والمحترمة والصحافة المسنودة من قبل الأحزاب المشبوهة". وقال ان من بين القضايا الكبرى والجوهرية التي يجب التفكير فيها قضية السياسة العامة للاعلام وتنظيم القطاع واصلاحه ودعم حرية الصحافة وتحسين الواقع الاقتصادي والاجتماعي للصحافيين وإيجاد منظومة ديمقراطية ملائمة لحرية الاعلام وللبناء على المكتسبات التي تحققت منذ الثورة.
التاريخ، التراث الديمقراطي و... التمكين
أما عضو الهايكا هشام السنوسي فقدم قراءة تاريخية واجتماعية في بعدها الإصلاحي انطلاقا من وعي خير الدين باشا وصولا الى طلائعية الطاهر الحداد والى الفارق الذي احدثه بورقيبة من خلال الغاء تعدد الزوجات مثلا عندما لم تكن تتوفر ذائقة اجتماعية لمثل هذا التغيير.. اما اليوم فالمجتمع التونسي يشكو من عدة امراض منها غياب التراث الديمقراطي، فهناك الخطاب الشعبوي وهناك الخطاب التكفيري وهناك خطاب الكراهية ورغبة الأحزاب في التمكين (وليست النهضة وحدها التي تسعى الى التمكين)، وفكرة التوافق التي كان لها تداعيات سلبية على مستوى بناء المؤسسات حتى بتنا نتفاوض كيف تكون هيئة الانتخابات توافقية بين الأحزاب، وعجزنا على انشاء المحكمة الدستورية لان الأحزاب ارادت اختراقها.. وقال السنوسي "لدينا أحزاب لم تبنى على الديمقراطية، أحزاب يبقى امينها العام نفسه طوال حياته (ميحبش على التداول السلمي داخل حزبو ويحب على التداول السلمي داخل السلطة)، وهذه مفارقات موجودة في صميم حياتنا الاجتماعية والسياسية وكان لها ظلالها على الصراع الموجود اليوم.
وفي علاقة بمجال الاعلام، قال السنوسي انه من التزم بالقانون في الانتخابات الأخيرة عوقب بينها الأحزاب التي لها قنوات واذاعات (قلب تونس له تلفزة والنهضة كذلك والرحمة له اذاعة) وهو أمر مخالف للقانون نجحت. وأشار السنوسي الى سحب مشروع قانون المجتمع المدني لهيئة الاعلام السمعي البصري بدون ادنى موجب في جانفي 2020، مبادرة سحبها مكتب مجلس النواب الذي اصبح جزءا من حركة النهضة، أي انّ عملية التمكين تحولت الى عملية مركبة ضف الى ذلك ما يسمى بالذباب الأزرق والتشويه اليومي لكل من يقول كلمة ضد هذا التوجه.. ورغم ذلك دعا السنوسي الى طول النفس لأن بلادنا في خطر وان الديكتاتوريات بقدرتها استعادة انفاسها مجددا..
-رابط اللقاء:
تغطية شيراز بن مراد