الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة بقلم المفكّر والفيلسوف فتحي التريكي: "آن الأوان لتأسيس ثقافة وطنيّة بديلة تقوم على الحرّية والإبداع"

نشر في  18 نوفمبر 2020  (18:29)

بقلم: المفكّر والفيلسوف فتحي التريكي
 
في خضمّ نضال فناني تونس ومبدعيها والمثقفين عامة في الآونة الأخيرة بعدما أجابتهم السلطة بعنف ينضاف إلى الحالة العنيفة التي يعيشها البلد أريد أن أقدّم هذه الفكرة حول الشباب والسياسة الثقافية في تونس.
 
من بين الحلول الممكنة لمشكل العنف المجتمعي الذي ينمو بسرعة عندنا حلّ يتمثّل في التوجّه الثقافي العقلاني والإبداعي الحرّ. كان لابد من الوعي بهذه الضرورة القصوى وتنظيم السياسة الثقّافية حسب قاعدتين أساسيتين: القاعدة الأولى هي بناء ثقافة متعقّلة ذات موارد فكرية متعدّدة لا محالة ولكنها كلّها تتخذ من العقل والأخلاق منارتين تتحدّد منهجية التثقيف على ضوئهما. أما القاعدة الثانية فهي محاولة بناء إبداعيّة ثقافة نقدية حرة تهذّب الذوق لا محالة ولكنّها توجّه الشباب وكل أفراد المجتمع نحو التعويل على النفس وتفجير القدرات والإبداعات مع تكريس العيش المشترك المبني على الاحترام والكرامة. نعم عقل وحرية مبدآن أساسيان لمستقبل الثقافة في تونس مهما كانت توجّهات النظام السياسية، إذا ما أرادت أن تبني مجتمعا مسالما بعيدا عن العنف.
 
للأسف الشديد وزارة الثقافة حاليا لم تستطع بناء مشروعها الثقافي الذي قد يضمن للتونسي مستقبلا متسالما وحتّى من حاول ذلك لم يكن له الوقت الكافي للتغيير والإصلاح. والحقيقة أنّ الكثير مازال يعتقد أن الثقافة هو شأن يجب تصريفه وتدبيره كما ندبّر شؤوننا العادية، دون نظرة مستقبلية ودون فلسفة واضحة ودون سياسة ملائمة لما أفرزته الثورة من مفاهيم جديدة وتصوّرات جذريّة، ذلك ما جعل بعض الذين يعتبرون أنفسهم مختصين في الثقافة يهيمنون على كل أقسامها وإنتاجيّاتها ويفرغونها من أهدافها وتصوراتها حتى تصبح الوزارة صندوق إعانات وإغاثة ولقمة لمن أستطاع إليها سبيلا.
 
حصلت في الآونة الأخيرة قطيعة واضحة بين الوزارة والشباب بينما كلنا يعرف أن قاطرة الابداع يقودها دائما الشباب المتعطش والذي يتحلى دائما بالجرأة في أعماله وثقافته وإبداعه وأحلامه وتوقه للمستحيل وأصبحت الوزارة تكرّس ما هو مكرّس في المجتمع وتُثبت ما هو ثابت وتشجّع من تمّ تشجيعه المرّات العددية خوفا من الجديد والمحدث والإبداع والمبدع في الرسم والسينما والمسرح والموسيقى والرقص وغيرها من الفنون المتعددة.
 
لذلك توجه بعض شبابنا إلى السفارات الأجنبية أو إلى المؤسسات الخارجية للحصول على الدعم وأصبحنا نعيش في تونس ثقافة مزدوجة : ثقافة غلبت عليها صبغة تراثية حسب قاعدة المعاودة والتكرار تدعمها وزارة تصريف الشؤون الثقافية، وثقافة مستقبلية غلبت عليها صبغة التجديد ولكنها تخدم أجندات ثقافية أجنبية وطموحات استعمارية جديدة.
 
كذلك تدخّل اليوم في الساحة الثقافية رجل الأعمال والمال ليخلق سوقا ثقافية مازالت محتشمة ولكنها قد تتطوّر بتطور البورجوازية الكمبرادورية المافويّة التي لا تؤمن لا بالوطن ولا بالثورة ولا بالعقل ولا بالأخلاق، بل بالمال فقط وكأن القيمة الوحيدة الممكنة للثقافة هي قيمة المبادلات والتبادل فيسهل بذلك تبييض الأموال عن طريق الفن عامة، مما يؤدّي إلى تكوين سوق مزعومة لفن تتحكم في طموحات الشباب وتنمّط إبداعاتهم حسب قاعدة العرض والطلب وقد يصل ذلك إلى إحداث فن مزعوم يقوم على الخديعة والكذب والتحيّل والسرقة .
 
فأمام هذا الوضع السيئ لا يجد للشاب التونسي أمامه إلا منهجين اثنين : إما أن يترك الساحة الثقافية التونسية ويهجرها نحو ثقافات أخرى تكون تارة أوربية وتارة شرقية وأخرى إسلامية متطرفة تبثّها قنوات تلفزية أجنبيّة وبرامج إعلامية وغيرها. وإما أن ينشط داخل ما هو موجود إمّا عن طريق النّضال المتواصل لفرض إبداعاته أو عن طريق قبول السائد الرّكيك.
 
آن الأوان أن نعيد للثقافة دورها الأساسي في تربية الأجيال وصقل مواهب الشباب بدون تسييس لأنها مستقبل تونس. وآن الأوان لتأسيس ثقافة وطنيّة بديلة تقوم على الحرّية والإبداع.