ثقافة الباحث التونسي خليل العربي يكشف وجه الشبه بين حركة النهضة وحزب التحرير
عن دار آفاق-برسبكتيف للنشر، صدر مؤخرا كتاب "في التنظير للحكم بين النهضة والتحرير"، وهو من تأليف خليل العربي الباحث بمرحلة الدكتوراه في كلية العلوم القانونية والسياسية والاجتماعية بتونس. ويزاول خليل العربي التدريس وهو أيضا عضو الجمعية التونسية للدراسات السياسية.
وفي مقدمة الكتاب التي أمنها الأستاذ إبراهيم محمد الرفاعي، جاء ما يلي: "دون إدعاء أو غلو، يقدم الكتاب هذه المساهمة المتواضعة على طريق وعد أكبر لسبر أغوار موضوع ذا صلة، هو عنوان أطروحته في الدكتوراه: "أية دولة؟ بحث في الممكن والممتنع بين فكر الإسلام السياسي والفكر الغربي". لكنه وعد يحتاج إلى تشابك أيادي الخيرين من أبناء الفكر في هذا الوطن لسبر أغوار البعد الإستراتيجي الداخلي والخارجي المتزامن في حراكه مع الجدليات المختلفة التي يطرحها هذا الكتاب والموضوع الذي أعلن عنه في الدكتوراه. وهذه دعوة صادقة لكل الخيرين في هذا الوطن ليكونوا رعاة لهذا النوع من الكتابات لإغناء المكتبة التونسية والعربية، وإشعال شمعة أمام شباب تونس حاملي المشعل، إن لم يكن اليوم فغدا".
"في التنظير للحكم بين النهضة والتحرير" عمل يسعى لتتبع آليات التنظير للحكم ومباشرته في العقل العربي والإسلامي، واتخذ نموذجا، من الحالة التونسية، حركتي النهضة و حزب التحرير الإسلامي. ويسعى الكتاب منذ البداية الى رفع الرهان العلمي نحو تقديم هذه المسألة في اطار منهجي مغاير لما سبق. فالمعهود في التناول التقليدي للدولة والسياسة البحث عن اسس نظرية وفكرية للمفاهيم الحديثة من داخل العقل العربي والإسلامي. وهو تناول يعيد انتاج الاشكاليات تحت صيغ مغايرة، فيقدم بذلك اسئلة جديدة اكثر من اجوبة منتظرة.
فاتجه الطرح في الكتاب الى تقديم الاشكاليات داخل اطار عام معرفي/ابستيمي وفرته آليات ومناهج العلوم السياسية واطار مفاهيمي ضروري يسمح بنقد عابر للفكر في العقلين العربي/الاسلامي الغربي، ولو اقتصر على أمثلة بعينها ضمن الحالة التونسية.
وقد كانت اشكاليته المنهجية هي التالية: كيف تتحدد نظرية الحكم من حيث المضمون والآليات لدى حركة النهضة وحزب التحرير الاسلامي ضمن سياق المرجعية الفكرية والمعرفية للتراث العربي و الإسلامي؟
الجزء الأول: الجدليات المرجعية للمشروع الاسلامي لدى حركة النهضة وحزب التحرير
يمكن حصر الجدليات المرجعية التي حددت تشكل المشاريع الإسلامية لحركتي النهضة وحزب التحرير في معطيين: هما النص/الوحي/النقل والعقلانية الإسلامية. في ظل العلاقة بين هذين المعطيين يمكن الوقوف على عملية التأصيل في رؤية الحركتين. وهما تشتركان في سياق هذه العملية المرتبك والمتداخل بين ضرورة الحداثة وهيمنة النص الديني الذي لم تحسم قراءته. فاتخذت كل منهما في هذا المستوى خيارا نصيا وسعت الى فرضه واقعا. تتقاسم الضغط على بلورة المشروعين ضرورتان هما الـتأصيل والشرعية.
تقدمت الحركات المذكورة، ضمن عملية التأصيل، إلى وضع الإطر المرجعية والأسس الكفيلة بذلك. وهنا تتقاربان إذ الرؤية دينية بالضرورة ووفق منطقها وطبيعتها يفكران. لكن نفس المفارقة المذكورة آنفا تسمح بالإختلاف الذي يتموضع في الخيار السياسي البراغماتي.
في جزئه الأول يفكر الكتاب مع الحركتين عن العقل والعقلانية والتراث والتجديد باعتبارها شأنا انسانيا لكن لا يلزم نفسه بنفس النتائج ليحلل وينتقد. فهذ التنظيمات لم تنفص عن الوعي واللاوعي الجمعي في المجتمع والدولة الحديثين. كما أنها تفاعلت مع سياق حضاري أكبر انخرطت ضمنه رغم يقينها بأنها أكبر منه نظرا للشعور الديني الذي يسمح بمثل هذه المواقف المسبقة.
من الملاحظ هيمنة للنص والنقل الذي يملك سلطة مطلقة ويمثل مرجعية حتمية. فيُنظر للنص كأولية منطقية ومعرفية لتقتصر عملية التأصيل على الربط مع الحقيقة الواحدة الكامنة فيه. نظرا لطبيعة النص المقدسة فإن أية خيار سيكتسي بهذا الطابع. لكن الخيار التأويلي عادة ما يحل محل النص نفسه. ليصبح الإختلاف بين الحركات على ملكية التأويل وأيُّها يطابق النص. هذا النص الذي يحدد المفكر فيه ولا يسمح بغيره.
على الرغم من أن الجهد التأويلي المشار اليه دليل على تاريخية النص، يبقى هذا المعطى مرفوضا في طرح الحركتين اذ يظل التأويل هو النص نفسه. ما يؤكد وثوقية هذا الخطاب وعدم تطوره من الناحية السياسية. وهذه السمات المُشتركة بينها فرضها سياق هذه الإشكالية الذي تميز بتعقيدات وصعوبات عديدة.
ضمن نفس مسار التأصيل كوّنت هذه الحركات مصادر الشرعية التي تستند لها. فضمان الشرعية يؤسس للخطاب والفعل. وهنا تراوحتا بين الاقتراب والابتعاد عبر التأويل واعادة القراءة لمفهوم الخلافة. فبينما يعلن حزب التحرير أنه يبحث عن اعادة الخلافة مسمى ومضمونا، ترى حركة النهضة ان الخلافة عنوان عام يحتاج تقعيدا. لكن يظل المنطق الداخلي للبناء نفسه.
فالنص من الرؤية الدينية وإليها والممارسة رهن أبعاده التأويلية. يلاحظ ذلك في خطاب حركة النهضة. وهو خطاب تجاوز الإزدواجية إلى التعقيد والتركيب. إذ مستوياته ثلاث أنتجتها الضرورة الدينية والوقائع السياسية. وقد ورد بالكتاب الرسم البياني التالي لبنية الخطاب لدى حركة النهضة وحزب التحرير. تتفاعل المستويات الثلاث فيما بينها. فبينما تصارع حركة النهضة داخل الخطاب التعديلي تواجد مفاهيم مختلفة في نفس الوقت، يعيش حزب التحرير فكرة رفض هذه المحاولات. لذلك اختلفا في تكوين الخطاب وعباراته ودلالاته.
الجزء الثاني: آليات الحكم في المشرع الاسلامي للحركتين
عندما حاول الكتاب بسط فكرة عن آليات الوصول للحكم لدى حركة النهضة وحزب التحرير، بدأت ملامح آليات مباشرته تتواتر ضمنيا لتُعلن عن نفسها في قسم ثان. فمن حيث تتحدد الحركتان تختلفان. فهما تؤسسان رؤية سياسية على القراءة الدينية والتراثية. إلا أن هذه القراءة ذاتها تقليدية وغير محسومة. ما يسمح بتعدد الفرضيات النصية مع الإشارة الى أنها فرضيات خلقت في سياق اجتماعي واقتصادي وثقافي محدد.
وذلك يعني أنها ستلجأ بالضرورة الى اختيار ممكن نصي من بين العديد. لكن المفارقة أنها تجعل من اختيارها الخيار الوحيد ليحل بذلك التأويل مكان النص. في ظل هذه المفارقة المدعومة بالقداسة المصبوغة على النص تؤطر هذه الحركات عملها السياسي ومواقفها من المجتمع والدولة الحديثة التي تتحرك ضمنها. كما أنها تمهد لآليات الحكم في ظل الدولة الموعودة على أساس هذه المقدمات التي تبقى دينية بالأساس. وهذه المقدمات تسمح بفرز المفاهيم المقبولة من غيرها في التنظير للحكم.
من هنا يبادرنا صراع المضمون الفلسفي بين الديمقراطية والشورى. فخيار حركة النهضة، ضمن التيار التوفيقي، اعتبر الديمقراطية واقعة تاريخية مكتفيا بجانبها الإجرائي. وعلى أساس قراءة فلسفية مغايرة عبر الشورى يقترح نظام الشوراقراطية. لكن المفارقة أن الطرح النهضاوي بعد ان اعتمد تاريخية الإجراء اقرّ لا تاريخية الإنسان والمجتمع. فالصورة السياسية تحتفظ بأمل ووعد الدولة الفكرية/الدينية التي تُلغي الصراع لصالح التجانس والتشابه على أساس ديني.
أما حزب التحرير فقد دفع بالفكرة إلى أقصاها ليؤسس نظام الخلافة الزائل على النموذج العثماني ليستعيده نبويا-سماويا. تبقى المؤسسات والبنى في الدولة متابعة للفكرة والرؤية. فهي تنخرط في الممكن النصي-المقاصدي نهضاويا وتلتزم حرفيا لدى حزب التحرير. لكن فرضيات الدمج والتطابق لتحقيق الفكرة الدينية واردة في الرؤيتين.