الصفحة الرئيسية  أخبار عالميّة

أخبار عالميّة أسوأ استخلاص من الانقلاب التركي

نشر في  29 جويلية 2016  (09:53)

بقلم جهاد الزين

العالم-ثالثية السياسية في تركيا، البادئة قبل الانقلاب، والتي تأكّدتْ مع حصوله، هي الخسارة. خسارتنا جميعاً. ففي هذه اللحظات ما هو أكبر من الاصطفاف أن نموذجاً فريداً في العالم المسلم يتمثّل بالنموذج التركي مات أو أوغل في الاحتضار. فليس “نموذجاً” هذا الذي عليك أن تختار فيه بين دولة وصاية عسكرية علمانية ودولة بوليسية إسلاموية.

لم أقرأ مقالاً واحداً جدياً في الغرب بعد الانقلاب لا يحمِّل الرئيس رجب طيِّب أردوغان مسؤولية ما وصلت إليه الأمور في تركيا، خلافاً للكثير من مواقف في منطقتنا اهتمت بالاصطفاف فقط مع أو ضد أردوغان بمعزل عن تعقيد الوضع بين انقلاب عسكري يجب أن يكون مرفوضاً بالمطلق لأسباب مبدئية وتسلّط فردي حزبي مدني أقام دولة بوليسية. فهل نقبل بالدولة البوليسية لأنها جاءت من صناديق الاقتراع؟! كان علينا أن نقبل إذن بهتلر وموسوليني وبيرون وقبلهم بنابوليون الثالث رئيس الجمهورية المنتخَب في فرنسا عام 1848 بخمسة ملايين ونصف المليون صوت من أصل سبعة ملايين ونصف المليون صوت، والذي توّج نفسه إمبراطوراً، بالمعنى الحرفي، عام 1852.
إنه تعقيدٌ في تركيا يجعل الصراع عملياً هو بين هاتين “الدولتين” العسكرية والبوليسية.
لقد احترمت القوى السياسية التركية المعارِضة نفسها وأخذت موقفاً حاسماً ضد الانقلاب العسكري كان يجب أن تأخذه حتى لو نجح الانقلاب. التمسك بالقيم الديموقراطية أمر ضروري. المشكلة ليست هنا في مجتمع تركي ذي تقاليد حداثية.
كتبتُ مراراً منذ بدأت مظاهرات تقسيم كمؤشِّر فعلي على بدء انفصال النخبة الشبابية والطليعية الليبرالية في اسطنبول والمدن التركية عن حكم الرئيس رجب طيِّب أردوغان، كتبتُ أن هذه الطليعة، كأي طليعة، رغم أنها أقلية وغير قادرة على التغيير المباشر في صناديق الاقتراع، فإنها مع ذلك هي التي تطلق صفّارة الإنذار نحو المستقبل وتعلن اتجاه التحولات العميقة. صار كبار المثقفين والفنانين والصحافيين الأتراك يعلنون معارضتهم لانحراف أردوغان في كل مناسبة دولية كبيرة تخصهم.
ولقد ثبت فعلاً أن الصدام الأول الذي قمع فيه رجب طيب أردوغان في ساحة تقسيم بداية صيف عام 2013 الحركة الشبابية والثقافية كان صفّارة الإنذار الأولى التي أعلنت بداية انحدار حكم حزب العدالة والتنمية وتحوّلِه إلى قوة “رجعية” في المجتمع التركي بعد حوالى عشر سنوات على قيادته تغييراً ديموقراطياً ضد الوصاية العسكرية على الدولة، وتحديثياً شكّل إضافةً وانعطافةً لجهود الأجيال النخبوية التركية التي سبقته.
كل حكم طويل الأمد مُهيأ للفساد والاستنزاف بطبيعة الأمور في أي مكان في العالم. هكذا في بداية العقد الثاني من حكمه بدأت تظهر التورطات الأردوغانية: شراهة للحكم الفردي، انتهاج سياسة شعبوية للبقاء في السلطة عندما ارتدى قميص القومية التركية وفتح الحرب على الأكراد، ظهور قضايا الفساد المالي واستغلال السلطة، قمع كل معارض فردي وجَماعي ثم سياسة تنكيل قضائي ضد الجسمين الصحافي والأكاديمي وحملة تصفيات ضخمة في صفوف البوليس والقضاء… ناهيك عن بدء انفكاك بعض أقرب قادة حزبه عنه. والنتيجة كانت ولا تزال ولادة دولة بوليسية حلّتْ مكان دولة الوصاية العسكرية السابقة، كل ذلك ناهيك عن مغامرات الساسة الخارجية في سوريا والعراق ومع مصر والاتحاد الأوروبي وأخطرها اللعبة المزدوجة حيال منظمة “داعش” والتي بدأت تنقلب عليه ويدفع ثمنها الشعب التركي، مثل شعوب أخرى، ضحايا ودماء.
ليست محاولة الانقلاب العسكري غير مؤشِّر على طريق اللاعودة في مسار انحدار رجب طيب أردوغان السياسي.
لستُ متأكِّداً أن الرئيس أردوغان سيستخلص الدرس الجوهري من هذا الانقلاب وهو أنه لم يعد يستطيع أن يكمل كما كان.
لقد أسقط هذا الانقلاب “الفاشل” سلطة رجب طيب أردوغان حتى لو لم يسقط هو شخصياً.
لكن المشكلة أن أردوغان، رغم براغماتيته، وخصوصا المستجدة في السياسة الخارجية، ليس من النوع الذي ينقلب على نفسه. فكما خبِرْنا من ديكتاتوريّي العالم وبصورة خاصة ديكتاتوريّي الشرق الأوسط، فهم يلجأون إلى تقديم تنازلات في السياسة الخارجية لضمان تقوية قبضتهم على السلطة في السياسة الداخلية.
لكنْ هذا ما كان أردوغان قد بدأه قبل محاولة الانقلاب. ولهذا بعد الانقلاب لم تعد معادلة “التنازل للخارج – تشديد القبضة على الداخل” معادلةً كافية. فقد خرج أردوغان من تجربة الانقلاب مديناً لمعارضته السياسية ومديناً للقيادة العسكرية اللتين مَنَحتاه، من “جيبه”، موقف رفض الانقلاب والتمسك بالديموقراطية.
بهذا المعنى نجح الانقلاب العسكري ولو فشل. فلن يستطيع أردوغان أن يمسك بالسلطة بعد اليوم كما كان مهما كانت الظروف. تركيا دخلت مرحلة من عدم الاستقرار حتى داخل المؤسسة العسكرية. فهذا الجيش المحترم والمحترف يشهد تململات في صفوفه ضد سياسات أردوغان بدأت تضعفه فكيف وهو يتلقى ضربات الحرب مع الأكراد التي أعادت القيادة السياسية توريطه فيها.
ما يثير الحزن، في لحظة تركية كهذه، أن تركيا دخلت حتى أمد طويل مرحلة عدم استقرار عالمثالثي ومعها ينطفِئ وهج نموذج ريادي سابق وفريد في العالم المسلم للعلاقة بين الإسلام والحداثة.
هنا الخسارة ليست تركية فقط بل غير تركية أيضاً.
… وأسوأ استخلاص يمكن أن نسمعه الآن من الرئيس أردوغان هو القول إن هناك مؤامرة على تركيا!!
(نُشِر هذا المقال على موقع “النهار” الإلكتروني تحت عنوان: نجح الانقلاب العسكري ولو فشل).