ثقافة فيلم "أطلال" لجمال كركار: انهزامات الأرض والجسد في معقل التراجيديا
من بين أنقاض قرية أولاد علال الجزائرية، انبثقت الصورة التي نقلتها كاميرا المخرج الشاب جمال كركار. صورة تروي التراجيديا وما بقي على الأرض وفي الذاكرة شاهدا عليها. فالكل هنا ينطق بعذاب العشرية السوداء التي عرفتها الجزائر من 1991 الى 2002 عندما استهدف الارهاب البلاد والعباد بلا هوادة.
هنا في قرية أولاد علال، الكل يحمل آلامه على كتفيه.. المنازل المهدمة، الأرض المثقلة بمخلفات جنون البشر، أشجار التفاح والخوخ "المصدومة". من وجع الأرض والنبات، ينطلق جمال كركار فاتحا أبواب ذاكرة المكان. اذ كيف يمكن استرجاع أحداث خلفت قرابة الـ200 ألف ضحية من دون اشعال فتيل الآلام من جديد؟
من خلال صمت المكان، ووجوم العيون، وأجيج النار، وموسيقى الشاب حسني، يسترجع فيلم "أطلال"، الذي عرض في اطار الدورة الثانية لمهرجان "لمسات أولى" السينمائي، يسترجع الكثير من الذي لا يُقال، من البشاعة التي لا تحمل اسما، من بربرية من أسالوا دماء الشركاء في الأرض والوطن.
يقول المخرج جمال كركار في فترة مناقشة الفيلم: "تلاقيت بالمنطقة وكأنها شخصية.. بحثت في بنائي السينمائي عن أحاسيس المكان قبل أن أذهب لملاقاة الحياة (Le lieu est porteur d’histoire sans paroles)". ويضيف: "وجهت كاميراي خلال الجزء الأول من الفيلم الى الطبيعة وأطلال المفقود في وقفة خشوع على روح المكان قبل أن يسمح الفيلم للشخصيات المستجوبة بالتحرر من خلال الكلمة ".
تنتقل إذا كاميراه في مرحلة ثانية الى خمس شخصيات عايشت المأساة، كل واحدة بشكل مختلف، فتصوّر انهزامات الجسد في معقل التراجيديا. هذا الجسد الذي سمع واهتز وتوجع لأخبار المداهمات والخطف والذبح والقتل والقصف. فما الذي يمكن أن ترويه اليوم؟ وعلى أي أطلال تعيش؟ وما هو الغد الذي تتطلع اليه؟ ومع أهمية الشهادات التي قدمها لخضر وعبدو وغيرهما، فإن المخرج صرّح خلال فترة مناقشة الفيلم أنّ "أطلال" مبني على انزلاقات بين الأجيال وانزلاقات تاريخية، مضيفا "لقد آثرت العمل على الأحاسيس أكثر من المضامين. ففيلمي ليس عملا حول الحكاية الكبيرة بل حاول استنطاق قصص صغيرة ومتعددة تستحضر ذاكرة المكان".
ولعل اللافت للإنتباه في مقاربة جمال كركار السينمائية هي طريقته في الاستماع الى شخصياته وكل ما يمكن أن تخفيه حركاتهم وانتصاباتهم في المغيب الذي يخفي وجيعتهم، والليل الذي ينعش حريتهم، ومع الريح التي تُلاعب مصائرهم أو مع اللون الأخضر الذي يستدرجهم الى لوحة زيتية تمشي على خطى الأبدية.
في "أطلال"، تحررت الكلمة والأحاسيس وتماهت كاميرا جمال كركار مع طبيعة قرية أولاد علال لتنقل وقائع من سنوات الجمر.. وقائع من ذلك المنسي الموجع الذي لا يزال محفورا في ذاكرة الأرض والجسد عسى أن تُشفى النفوس قليلا، ولو سينمائيا، من ذلك الذي لا يُسمى.
شيراز بن مراد
*تظاهرة "لمسات أولى" من تنظيم جمعيتي "أرخبيل صور" و"نشاز" وتهدف إلى مرافقة مخرجين شبان من دول البحر المتوسط وخاصة من الضفة الجنوبية للمتوسط من أجل تذليل الصعوبات أمامهم والتعريف بأعمالهم.