أخبار وطنية آسف السيد الرئيس. أنت متأخر عن الطاهر الحدّاد بتسعين سنة.. بقلم الأستاذ عميره عليّه الصغيّر
بقلم الأستاذ عميره عليّه الصغيّر
من درس التاريخ يعرف أنّ التحولات الكبرى في حياة المجتمعات تتطلب استيفاء شروط لتحقيقها أهمها حضور قوى اجتماعية لها مصلحة في انجازها وخاصة لها القوة المادية (السياسية و الاقتصادية و الفكرية) لبلوغ غاياتها. وفي حالنا في تونس وحال بقية المجتمعات الاسلامية هذه الشروط مفقودة للتعدي بها من مجتمعات التيبّس الديني والمحافظة الى مجتمعات الحداثة والتنوير والمساواة بين البشر.
الثورة في الدين لم تقع وأهل الإسلام مصرون دائما على الموت في "النّص" المقدّس و العيش سكيزوفرينيا دائمة. فالعاقل لن يطلب منك ما لا تستطيع خاصة وانك اعلنت "اللون" قبل حتى انتخابك في 2019. طبعا انت حر في "محافظتك" ويمكن ان تخدم وطنك في امور أخرى، امّا أن تنتصب فقيها في خطابك يوم 13 اوت، وانت استاذ قانون، فهو خروج عن القاعدة واستسمح زميلتنا نايلة السليني في الاستشهاد بهذه الكلمات في ردها عليك في خطابك في ذكرى 13 اوت.
تقول:" اعتبرتَ المواريث قطعية الدلالة، وهذا دليل وحجة على خلط بين ما فهمه الفقهاء وما ورد في القرآن، وذهبت إلى أنّنا شعب نحتكم إلى قطعية الدلالة . وفي هذا القول انزياح خطير، خاصّة إذا صدر من مختصّ في الدستور، إذ ما فائدة الدستور إن كان القرآن تحدّث في كلّ شيء؟
وعلى هذا الأساس.. فالرجوع إلى تعدد الزوجات هو رجوع إلى الصراط المستقيم، وتطبيق احكام العدّة من الدين، وأصبح نسخ التبنّي أمرا محسوما، وكذلك الأمر بالنسبة إلى قطع يد السارق، وبصفة اخصّ اليد اليمنى.. وما قولك في أحكام الحِرابة وقطع أيديهم من خلاف؟؟ آه نسيت الظِهار، بما أنّ النصّ أبانه حسب مذهبك.. والمحلّل؟؟ أسالك هل هو من القرآن أم من تأويل الفقهاء؟ بما أنّك عالم بكلّ شيء.."(مقال منشور على موقع المعهد التونسي للعلاقات الدولية.14/08/2020).
و الأدهى، سيدي الرئيس، أنك تأتي بخطاب موغل في المحافظة كان مصلحنا الطاهر الحدّاد تخطّاه بفكره الثاقب ووعيه الوطني بضرورة النهوض بمجتمعه وبالمرأة بالخصوص ومنذ تسعين سنة. وها هي فرصة أخرى نعيد بها الاعتراف لذاك المثقف العضوي المتفرّد الذي لم تذكر اسمه في خطابك الا مرة واحدة و بالغت في نكرات حوله.
فما هو مشروع الحدّاد للرّقي بالمرأة وتحرّرها ؟
في الواقع ينزّل الحدّاد أفكاره التّجديدية ومشروعه النّهضوي الشامل في ما أكد عليه في كتاباته من ضرورة مسايرة الاتجاه العام والمحتّم لحركة التطوّر التاريخي وليس إدارة الظّهر لها والانزواء والانكفاء على الماضي نقدّسه. يقول : "إن تيّار الحضارة الغربية يجرفنا رجالا ونساء إلى مصبّه رغما من خلق الرياء الذي يحملنا على العطف والتّحنن إلى قديمنا الذاهب ولا ينجينا من ذلك مجرّد التأفف والاستعاذة اللذين اعتدنا أن نكتفي بهما في كل ما يلم بنا من حوادث".()
في رأيه أن حركة تحرير المرأة حركة لا مردّ لها بحكم هيمنة أسلوب العيش الأوربي والتّمدن. "إننا مهما بالغنا في إنكار ما للمرأة من حق وما لنا في نهوضها من نعمة شاملة فإنها ذاهبة في تيار التطوّر الحديث بقوة لا تملك هي ولا نحن لها ردّا" يقول في موضع آخر( ). ولذا حسب الحدّاد توجّب تسليح المجتمع برمّته ومنه المرأة بالأدوات الفكرية والمعرفية وتوفير الشروط الاقتصادية الضرورية لمسايرة حركة التاريخ للانبعاث وإلا كان الفناء.
ويضع الحدّاد نفسه خارج منطق تيّار المصلحين الدّينيين فهو لئن بسط أفكاره التّحرّرية للمرأة انطلاقا من النّص الديني القرآني وإعادة قراءة أحكامه اعتبارا لما يقتضيه التطوّر ومحتّمات الزّمن والحياة فإن منظوره النّهضوي العام يخرج عن المرجعيّة الدّينية ويندرج ضمن اجتهاد عقلاني وضعي لا يقيم اعتبارا إلا للمنطق والعقل والعلم ويحدوه في ذلك أمل التحرّر الاجتماعي والوطني كمقصد وهدف وضعه لنضاله الفكري والاجتماعي والسّياسي.
كما أن تحرير المرأة ينزّله الحدّاد في إطار منظوره العام لتحرير المجتمع والوطن. تحرير الوطن من الاستعمار وتحرير المجتمع من الاستغلال والتّسلط وعدم المساواة ومن الجهل والفردية القاتلة. ويعتقد الحدّاد راسخا أن تخلّف مجتمعه ووهنه واستعباده من المستعمر يعود في أحد أسبابه الأساسية إلى ما وضع فيه نصفه أي نساءه من مهانة وذلّ وانتقاص وتعطيل لكل قدراتهن لذا رأى الحدّاد أن شرط التّحرر الأول والخلاص الجماعي هو في النهوض بالمرأة وتحرّرها باستعادة إنسانيتها عن طريق التعليم والعلم والتربية السّليمة التي سوف تغرسها بدورها في أبنائها بناة التّحرر المنشود ( ).
وترتكز أفكار الحدّاد الإصلاحية لتحرير المرأة على مجموعة من المواقف عبّر عنها في مقالاته وأشعاره وخاصة في مؤلفه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" نوردها موجزة هنا:
● إفحام خصوم الإصلاح والنّهوض بالمرأة:
يستنجد الحدّاد لتغليط معارضي الإصلاح وللإقناع بوجوب تحرير المرأة بمنطق التاريخ السّائر في اتجاه حريّة المرأة أولا وثانيا استنادا لفلسفة الدين وروحه إذ يعتقد الحدّاد أنّ النص القرآني متجدّد ومتطوّر وأنّ الأحكام الواردة فيه ليست نهائية بل هي وقتية تعبّر فقط على مستوى نضج المجتمع العربي زمن نزول الوحي وإن غاية الإسلام الكمال لذا وجب أن يتغيّر النّص كلما تغيّرت الحياة والواقع. ومن هذا يستمدّ الحدّاد اعتقاده في مرونة الشريعة وخلودها.
وهذا الرأي كان أحد حجج خصومه في اتهامه بالكفر. وهذا التأويل بنى عليه الحدّاد فكره إذ يقول: "لقد رأيت بعين اليقين أنّ الإسلام بريء من تهمة تعطيله الإصلاح بل هو دينه القويم ومنبعه الذي لا ينضب وما كان انهيار صرحنا إلاّ من أوهام اعتقدناها وعادات مهلكة وفظيعة حكّمناها في رقابنا"( ).
● المرأة مساوية للرّجل ومؤهلة للنهوض بأعباء الحياة
عكس ما كان متداولا عند أغلبية أهل عصره من اعتقاد في نقصان المرأة "عقلا ودينا" بالنّسبة للرّجل يردّ الحدّاد أن ذاك مجرّد ادعاء حتى وإن وجدت اختلافات فهي نتيجة حرمان المرأة من العلم والتجربة الاجتماعية وليست من جوهر المرأة. يقول، "وفيما أرى أن الإسلام في جوهره لا يمانع في تقرير هذه المساواة من كل وجوهها متى انتهت أسباب التفوق وتوفّرت الوسائل الموجبة (...) لقد حكم الإسلام في آيات القرآن بتمييز الرّجل عن المرأة في مواضع صريحة. وليس هذا بمانع أن يقبل مبدأ المساواة الاجتماعية بينهما عند توفر أسبابها بتطوّر الزّمن ما دام يرمي في جوهره إلى العدالة التّامة وروح الحق" ( ).
ويشكّك الحدّاد في صحّة الحديث المروي على النبيّ "النساء ناقصات عقل ودين" ويفترض حتى إذا سلّمنا بصحته انّه لا يدرى أكان يحدّثنا به عن أصل تكوين المرأة في جوهرها –ولا دليل على ذلك من لفظ الحديث- أو هو يعبّر عن حالتها في تلك العصور يعتذر عن بعض هفواتها لسائله أو لسامعه" ( ). والحدّاد خلافا لمعاصريه وحتى الإصلاحيين منهم يرى أن المرأة مؤهلة لتولّي كل الوظائف في الدّولة والمجتمع ومهما كان العمل عظيما إذ يعتقد أن ليس في القرآن ما يمنع ذلك. ( ).
● المساواة أمام الزّواج ومناهضة تعدّد الزّوجات :
يرفض الحدّاد ما كان يعتبر شرعا في عهده من حق الولي في تزويج منظورته ابنته أو غيرها فهو يطالب بأن يكون الزّواج اختيارا بين الرجل والمرأة وذلك إقرار بأهليّة الأنثى في اختيار شريك حياتها ويطالب برفع الوصاية عن المرأة. يقول ضد سلب المرأة حق اختيار زوجها: "عوض ذلك اخترنا أن نطمس بصيرتنا لنسلبها حق الاختيار بحجّة قصورها ونعطيه لغيرها من الآباء والأوصياء. وكم من الآباء من جعلوا زواج بناتهم قربانا للوجاهة والوظائف واستبدال المال أو حتى ضحيّة الغلط السّاذج واتّباع العادات كتزويجها من ابن عمّها أو من شيخ زاوية مهما بعد استعدادهما عن التناسب" ( ).
أمّا في تعدّد الزّوجات فقد كتب الحدّاد : "ليس أن أقول بتعدّد الزوجات في الإسلام لأنّني لم أر للإسلام أثرا فيه وإنّما هو سيّئة من سيّئات الجاهلية الأولى التي جاهدها الإسلام طبق سياسته التدريجية" ( ). ولم يجز الحداد تعدّد الزوجات حتى في حالة مرض الزوجة الأولى كما قال ذلك النصير الأوّل لتحرير المرأة قاسم أمين. كما أنّ براهين الحداد في مناهضته للتعدّد لم تقتصر فقط على المانع الشرعي أي استحالة العدل بين الزّوجات بل أنّ منطلقه كان إنسانيا أي أنّه كان يعتبر المرأة والرّجل متساويين في القيمة الإنسانية ومن هنا كان تعريفه للزّواج بأنه "عاطفة وواجب وازدواج وتعمير" ( ) وهو ما يتناقض عموما عند أهل عصره من علماء وعامة من اعتبار الزواج عقد تمتيع رجل مقابل مهر بمفاتن امرأة حتى وإن غلّفوا ذلك بعدّة اعتبارات فقهيّة.
● الحجاب "كمامة على فم كلب" وحائل بين الرجل والمرأة :
يناهض الحدّاد الحجاب بما أنّه يرى من حق المرأة التمتّع بالحياة وبالجمال والخروج للحياة العامّة فهو يعتبره ليس من الإسلام في شيء : "إنّ الحجاب الذي نقرّره على المرأة كركن من أركان الإسلام سواء مكثها في المنزل أو وضع النقاب على وجهها ليس من المسائل التي يسهل إثباتها في الإسلام بل ظاهر الآية يرشد إلى نفيه لما في ذلك من الحرج المضني. وممّا يجعلنا نقطع بعدم وجوده في الإسلام" ( ). ويشبّه الحدّاد النّقاب على وجوه النّساء منعا للفجور "بالكمامة على فم الكلاب كي لا تعضّ المارين" ( ). ومن الحجج التي يسوقها الحدّاد ضد الحجاب هي أنّه حائل للتّعارف الضّروري لنجاح الزّواج بين المرأة والرجل.
*الحدّاد يؤمن بإمكانيّة التساوي في الميراث بين الرّجل والمرأة :
انطلاقا من فهمه التطوري لأحكام الشريعة ومن إقراره بحق المرأة في العمل وإنتاج الثروة يقرّ الحدّاد –وهو من القلائل من دعاة تحرير المرأة في العالم الإسلامي الذين نادوا بالمساواة في الإرث بين الذّكر والأنثى- إنّ قاعدة "وللذّكر حظّ الأنثيين" ليست من ثوابت الأحكام. يقول في مؤلّفه "امرأتنا" : "في الحقيقة إن الإسلام لم يعطنا حكما جازما عن جوهر المرأة في ذاتها. ذلك الحكم الذي لا يمكن أن يتناوله الزّمن وأطواره بالتّغيير. وليس في نصوصه ما هو صريح في هذا المعنى. إنّما الذي يوجد أنّه أبان ضعف المرأة وتأخرها في الحياة تقرير للحال الواقعة ففرض كفالتها على الرّجل مع أحكام أخرى بنيت على هذا الاعتبار وقد علّل الفقهاء نقص ميراثها عن الرّجل بكفالته لها. ولا شيء يجعلنا نعتقد خلود هذه الحالة دون تغيير" ( ).
● الحدّاد ينادي بإنشاء محاكم للطّلاق :
ضمانا للمساواة بين الرّجل والمرأة وتفاديا لما كان يلحظه الحدّاد من استبداد الرّجال على النّساء وما وضعه الفقهاء من حق شرعي في أيديهم في حريّة تطليقهم لزوجاتهم ومنع حق طلب الطّلاق على الزّوجة إلاّ بشروط يصعب توفيرها نادى الحدّاد بإحداث محاكم للطّلاق وكان مجدّدا في ذلك. يقول الحدّاد لتفادي تلاعب الرّجل بمصير المرأة " أن لا علاج لدرء هذه الحالة إلاّ بوضع مبدأ تحكيم القضاء في كلّ ما يقع من حوادث الطّلاق والزّواج حتى لا يتمّ منهما إلاّ الموافق لغرض الشريعة ونصوصها" ( ). إنّ وضع الطّلاق بيد القاضي هو الكفيل وحده حسب الحدّاد برفع سيف التطليق المسلّط على رأس المرأة ويمنع انكسارها وذلّها وخوفها الدّائم على استقرارها ويحدّ من تعسّف الزّوج.
كان الزعيم الحبيب بورقيبة ورفاقه من النخبة الوطنية أوفياء لفكر الطاهر الحداد باصدار مجلة الأحوال الشخصية على نواقصها اما انت سيدي الرئيس، مع واجب الاحترام، فانك دون ذلك.
ملاحظة: كل الاستشهادات من كتاب "امرأتنا في الشريعة و المجتمع"، الصادر سنة
1930. واعتمدنا طبعة 1977 لدار المعارف والطباعة و النشر.
(نشر المقال ب "الصباح" يوم السبت 15اوت 2020)