ثقافة الأديب عبد الجبار العش: ألا يغدو الصمت نبلا وقد صدحنا بأصواتنا عبر رواياتنا حين كان الكلام الحر محاصرا؟
استضاف صالون «ناس الديكامرون» يوم الجمعة 26 ديسمبر الأديب عبد الجبار العش صاحب روايات «محاكمة كلب» و«افريقستان» و«وقائع المدينة الغريبة» فضلا عن مجموعته الشعرية «جلنار» التي قال عنها الروائي كمال الرياحي -في تقديمه لضيف دار الثقافة إبن خلدون- إنّها مجموعة هامّة في المدونة الشعرية التونسية.
وكشف عبد الجبار العش انه يشعر بوجوده في مأزق، فيوما بعد يوم يحس وكأنه يريد ان يصل الى النهاية، نهاية الكتابة، نهاية الرواية.. وقال انه لا يقصد الامتناع عن الكتابة بل يقصد رؤيته لما يجب ان يكتب في تواصل مع رواية «محاكمة كلب»، وأن يقول ما لم يقله في هذا المؤلف.
وأضاف العش انه لم يستطع الكتابة طيلة الـثلاث سنوات الأخيرة مثما فعل العديدون، ولكنه حاول ان يواصل الحياة ملاحظا انه اذا اعتبر البعض انّ ما كتبه في «محاكمة كلب» جريء فانّ ما لم يقله هو الأخطر.
وردّا علي تعليق الشاعر آدم فتحي الذي قال انّ «صمت» العش قد يكون جزءا من رواياته القادمة، أجاب صاحب «وقائع المدينة الغريبة» متسائلا: «هل على الراوئي أن يكتب نصوصا تتبخّر ام عليه ان يُنوّع ويذهب الى نصوص شعرية نثرية او مقالات قد تكون خميرة رواياته القادمة»؟
والقى عبد الجبار العش بالمناسبة قصيدة جلّنار، كما قدّم شهادة تطرق فيها لعلاقته بالكتابة متسائلا عمّا إذا كان الصمت نبلا وقد صدحنا بأصواتنا عبر رواياتنا حين كان الكلام الحر محاصرا؟ ونسوق لكم نصّ الشهادة كاملا:
"ماذا سأكتب الآن؟
الكلمات العالقة كحجر في الحنجرة تهفو إلى الانعتاق من أسرها. لكن لا مداد لمن ينادي. كما لو كنت أطلقت آخر طائر من قفص اللغة. تتدافع الحركات لتقول ما بعد 14 جانفي، لكن الرواية سلحفاة تأبى الركض مشيحة بوجهها عن خططي ومسودات ما قبل الثورة. انقطع صوت الراوي فجأة حين كان يتدبر حكايته الجديدة وإنفضت شخصيات راويته عنه، ليتحلق من حوله حشد مندفع من أنماط شتّى..
تعرّفت على البعض منها وقد كانت من شخوص رواياتي الثلاث الأولى: هاجت وماجت واربدت وعربدت.. منهم من يغمز إشارة عرفان، لأنّني أحييته حين كان الموت سيدا. ومنهم المشهر وسطاه هازئا بنبوءاتي، ومن بينهم الهارب خوفا تطارده الكلمات المحررة. تتدافع الأحداث، وبطن الرواية المحلوم بها ينتفخ ويعظم، فتنوء اللغة بحملها الفياض ولا طلق ولا زغردات؟ أقف مبهورا حيال كلمات وقحة تتجرأ عليّ وقد أصابها كلب ودهاء الأسئلة الجديدة..
يمسك بتلابيبي شهيد من مدن منسيّة يصرخ في وجهي وقد ضجّ فمه بالبصاق: أكتبني.. يحدجني سجين سياسي سابق بعينين يقطران ورعا ودما مشرئبا قائلا: «لا تطفيء ليلنا بشموس حكاياك»، تهمس في أذني امرأة بجباجة تتأود.. يضوع من أعطافها طيب الحياة: «لا تتركني وحيدة في عتمة الآتي...». فأضج وأشهر قلمي في وجهي وأكاد أغمسه في دمي.
ماذا سأكتب الآن؟ وهل تختلف شهادة الراوي بعد الثورة عن شهادته أيام الجمر؟ كأنّ الإجابة ترغب في الاحتفاء بحرية موعودة.. فتثور اللغة ويغدو لسان الراوئي طويلا بل سليطا طليقا فرس برية في برية بلا سياج.
لكن هيهات... فالثورة لن تضفي على الزائفين شرفا زائفا. انّ الشهادة في هذه اللحظة الجليلة من تاريخ تونس، لن تكون في الغالب إلا مديحا للذات وللأثر الأدبي (مزلق الكتاب الأحرار) وإعلاما عن دوره ـ دورهم ـ في رفد النضالات التي قاد تراكمها الى وضع ثوريّ.. كأني أشير الى شرعية الكلام وجدارته في خضم هذه الفوضى التي يتبارى فيها المهرولون القدامى للوقوف أمام عدسة أو عين (بما فيها عين الناقد). ألا يغدو الصمت نبلا وقد صدحنا بأصواتنا عبر رواياتنا حين كان الكلام الحر محاصرا مهمشا فلم يشفع لنا عند القراء سوى صدقنا وانتصارنا للعادل والانساني في الانسان؟
وأسأل: هل يحق لي أن أصمت فلا أذكر راوايتي «وقائع المدينة الغريبة» التي ظلت قرابة الحول دون تأشيرة الإيداع القانوني، ولولا تواطؤ صاحب المطبعة معي، الذي غامر بمدّي بنسخ الراوية لتوزيعها ولولا حصولها على جائزة الكومار الذهبي ـ علما انّ ادارة الجائزة قد رفضت تسليمي اياها الا بعد مدّهم بالإيداع ـ ولولا تعمدي متحديا توزيع الراوية على نطاق واسع، لما تمكنت من الايداع ولما تسلمت الجائزة التي كانت لها دلالة هامة بحكم حصولي عليها عن عملي الأول أي روايتي البكر.
وللتاريخ فقد علمت فيما بعد أن أعضاء لجنة التحكيم وأقصد الكاتبة عروسية النالوتي الزمرلي والدكتور محمود طرشونة قد قرروا التشبث باسم الفائز حصل أم لم يحصل على الايداع. هل يجوز لي ان اذكر انّ روايتي الثانية «أفريقستان» قد عوملت من طرف الإعلام والنقاد في تونس كما لو كانت وباء؟ (يقطين والسياسة) أم أذكر روايتي الثالثة «محاكمة كلب» التي ترجمت إلى اللسان الفرنسي، والتي أختزلها في نداء بطلها الذي عاش حياة كلاب، أن يُحكم عليها بالإعدام، رافضا حكم الحياة مدى الحياة، وقد يئس الحياة، هذا اليأس الذي قاد عددا من المواطنين الى احراق انفسهم في روايتي «وقائع المدينة الغريبة» وقاد عرّوب الفالت في محاكمة كلب الى محاولة انتحار، وحين فشل «حرق» باتجاه جزيرة لمبدوزا (فهل رأى النقاد ذلك؟)
حسنا، ماذا سأكتب الآن؟ ماذا سيكتب رفقائي صناع الحكايا، ماذا سأكتب وقد احتل الأصدقاء والقراء سطح بيتي يتنصّتون...؟ واحتشد الأحزاب والنقاد وأهل الصحافة أمام الباب يتوقعون... وأذناي أصابها الصمم من هول الطرقات المجنونة على بلّور نوافذ بيتي، أفتح النوافذ لأرى من الطارق فإذا بالعادل الجميل والانسانيّ معتصمين أمام شباك مخيالي.
تتدافع الوفود علي بيت الروائي، فتأتي الحرية في يدها زهرة برية، تأتي الكرامة بخبز وزيتون ونبيذ معتق هدية للكاتب قائلة: اكتب.. اكتب
يتقدم المتعطلون عن العمل والشحاذون والمومسات وجامعو القمامة والمشرّدون بلا مأوى وجرحي الثورة وقد أعدوا لافتتين مخفيتين بإحكام، لكني تنبهت الى صورة قلب مرشوق بسهم الحب في الأولى وكلمة Dégage مكتوبة بخطّ مرتعش على اللافتة الثانية، فارتعدت فراصي وامتلأت مثاتني مرتبكا..
واللحظة الجليلة طفلة تشحذ من جدها الروائي قصيدة والروائي يسوّف ويُسرّح كبة الحكاية المخبلة خيوطها.. والساعة عقرب تلدغ، والطفلة فاغرة العيون تقاوم الغياب.. كأنّ حريتي تضيق، كأني أرى مقصا يختن احليل خيالي.. كأني أرى مبضعا يخفض بظر أنثى كلماتي..
أرى الكلمات والألوان والأصوات تركض في زقاق مظلم تتلفت الى نصل مدينة يُومض في العتمة. تصل الكلمات منهكة الى بيت الكاتب، والألوان شاحبة الى ورشة الفنان التشكيلي، والأصوات مبحوحة الي حنجرة المغني تقاوم الخوف والتردد واليأس وقد إنتابها نزوع إنتحاري أعمي تحاصرنا جحافل من أزمنه بائدة فتعلن اعتصام «الحرية أو الموت» فتتدفق الى شارع الثورة شارع رقم 17.14 ديجانفي الأعمال الكاملة لنزار قباني وأحمد فؤاد نجم ومحمد الماغوط ودرويش تتقدم روايات شكري ومنيف ونجيب محفوظ ومحمود المسعدي. تفيض الألوان جداول بين أشجار الشارع منبثقة من رسوم لا عدّ لها.
تتماوج وتتزاوج أصوات الآلات الموسيقيّة مع ترانيم سيد درويش وميريام ماكيبا وأم كلثوم وفيروز والشيخ إمام عيسى، ينظم الى الحشود السادة والسيدات: الطاهر الحداد وعزيزة عثمانة ونوال السعدواي وقاسم أمين وخولة الرشيدي وبسمة بلعيد وآخرون..
يأتي الحجاج ابن يوسف وهو و«نفط بن الكعبة» و«أمير قطرائيل» وظالوم الشرجي ويحاولون التغوّط على الكتب والألوان والأصوات فتقاوم وقد تراصّت صفوفها وتشابكت أيديها فاتحدت والتحمت اصواتها في ألوانها في كلماتها صرخة واحدة: الحرية أو الموت..
نعم: ماذا سأكتب؟ فكيف وأين وماذا؟
كأني أعيد ترتيب الأشياء في درج نثري وشعري، كأن قوّة شرعيّة الصناديق العمياء، تحرّضني على التقهقر الى الأسئلة الأولى والأحلام الأولى فيصير حق الاختلاف والحق في الحب والحق في الفوضي وبهجة الحواس وحرية الحرية.. عنوان راوية الزمن الآتي؟؟
تتخلى الرواية فجأة عن طوباويتها وأحلامها القصوويّة لتنتصر (ويال المفارقة) للبديهيّ للأسئلة البكر في كتاب الحياة.
ولأنّ الرّقيب كان مؤسّسة فصار ينحو منحى الرعية الرقيب، يعود الروائي تلميذا نجيبا في مدرسة المواطنة ليدافع عن حرية الابداع. هكذا فجأة تغدو اللغة التي كانت خليلة الروائي فضاء مفخخا، وقناصة الأخلاق الحميدة يتربّصون لعثرات الكاتب. فهل سيكون للابداع الحر شهداؤه؟؟ وقد كانت الكرامة والحرية سؤال الشهداء؟؟"
شيراز بن مراد