ثقافة نساء الجنوب: دافعن عن أرض تونس منذ قرون
لا شك أنّ النساء التونسيات لعبن دورا مفصليا وهاما في معركة تحرير الوطن التي شهدت مخاضا عسيرا إلى أن تحقق الاستقلال. ولأنّ التاريخ ونقصد المؤرخين لم ينصفوا بما فيه الكفاية مسيرة كفاح ونضال نساء تونس الحرائر من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، فإنّه وجب ردّ الاعتبار لبنات عليسة والكاهنة اللواتي تظاهرن وجمعن الأموال ونقلن الأسلحة والمؤونة من أجل وضع حدّ للاستعمار.
وفي هذا الإطار ارتأت أخبار الجمهورية تسليط الضوء على مسيرة كفاح بعض نساء الجنوب اللواتي لم تمنعهنّ الظروف والبيئة القاسيتين من الإصرار والإستماتة في المضي قدما في معركة تحرير البلاد رغم تعرضهن لشتى أنواع التعذيب.. وقد اعتمدنا في مقالنا على ما جاء في كتاب «قاموس السير للمناضلات التونسيات 1881 ـ 1961» للكاتبة ليليا العبيدي..
ـ مريم بنت أحمد بن لطيف بوجناح زوجة مسعود بن محمد الصغير
ولدت المناضلة مريم بوجناح أصيلة رمادة سنة 1931 وتوفيت سنة 2005. كانت مداوية تقليدية وقد عرضت عليها سلط الاحتلال أن تمارس المداواة في المستشفى ونظرا لجمالها رفض زوجها الذي كان يعمل مع الجيش الفرنسي ذلك. كان زوجها يستغل السيارة التي وفرّها له الجيش المحتل لنقل الطعام الذي كانت تطبخه للفلاقة، كاشفا لهم برامج دوريّات المستعمر لمراقبة الجهة. وهبت جميع مصوغها لتمويل عمل المقاومين الذين كانت تخفيهم في بيتها وتساعدهم في التخفي والهروب. وفي يوم من الأيام حين كانت تورد الماء مع فاطمة صميدة وفاطمة الحدّاد وعائشة الدبابي حاول عسكري فرنسي الاقتراب منها فدفعته وجرّاء ذلك قام بضربها إلى أن أوقعها أرضا فأخذت قبضة من الرمل وألقتها على وجهه. وإثر تلك الحادثة قام العسكريون الإستعماريون بإيقاف زوجها لمدة 45 يوما لاستنطاقه خاصة وأنهم كانوا يشكون في تجسسه لفائدة المقاومين ليطردوه بعد ذلك من العمل معهم دون أن يطالب بحقوقه. امرأة جمعت بين جمال الخلق وشعلة النضال...
ـ فاطمة بنت الشيباني بن سعد
ولدت المناضلة فاطمة بن سعد سنة 1930 في منطقة رمادة التابعة لولاية تطاوين ، عاشت في وسط نضالي حيث كان زوجها بلقاسم عبد المولى مقاوما لجند الاحتلال. عرفت بإعانتها للفلاقة بالمؤونة والإمدادات الغذائية وعندما فتّش جنود الجيش الفرنسي بيتها سنة 1958 لاحظوا أنّ بيتها عبارة عن مخزن لكمية هامة من الأغذية ففهموا أنها كانت تعين المجاهدين. كانت تطلق الزغاريد صحبة جمع من نسوة رمادة لتشجيع المقاومين الذين كانوا يدافعون عن القرية المحاصرة من قبل الجيش الفرنسي المستعمر الذي كان يراقب المارة ويفتش الهويات وعندما تفطنت انه يبحث عنها صحبة مجموعة من النساء سارعت إلى الهروب معهنّ فتعرّضت للسقوط وجرحت ساقها. كانت رمزا للنضال النسوي الذي ولد في تلك الربوع القاسية...
ـ مباركة بنت أحمد بن يحيى حيدر زوجة علي بن أحمد بوعجيلة (تطاوين)
ولدت سنة 1912، شاركت في مختلف الأنشطة التي عرفتها رمادة.. فحين كان التجار يقفلون أبواب حوانيتهم، كان النساء والشبان يتظاهرن حاملين العلم منادين «تحيا الحرية».. حاصرهم جنود الاحتلال فيما كانت الطائرات تحوم فوق المنطقة.. كثير من النساء أجهضن من الرعب وقتل محمد ضيف الله وعضوان اخران من الشعبة... أثناء معركة رمادة خرجت مباركة ومدت السرجان لمجد بالماء عندما كان يحاول إيقاف تقدم الجنود الفرنسيين وقد و وجد مقتولا بعد مدّة في واد بن ناصر.
ـ فاطمة بنت عمر بن عبيدي وكنيتها ماما قنوشة
ولدت المناضلة ماما قنوشة أصيلة منطقة دقاش سنة 1881 وتوفيت سنة 1977، كانت امرأة صلبة فلحت نخلها بمفردها والمسدّس في حزامها. كانت أول امرأة في المنطقة تمارس العمل السياسي إلى جانب الرجال منذ سنة 1934 نظرا لوعيها العميق بوطء الاستعمار ومضاره. ساهمت في تحسيس النساء وبث التوعية من خلال نقلها لمضامين نقاشات الرجال المقاومين السياسية التي تتابعها من وراء الجدران. كانت على وعي كبير بأنّ كفاحها من أجل الحرية مثال في أعين أهالي المنطقة فعملت بذلك على الترويج لتربية وثقافة جديدة مشجعة النساء في ذلك الوقت على دخول المدارس حتى وإن كانت مختلطة . امرأة قدوة تعتبر أمّا للنضال النسوي في دقاش...
خديجة رابح: «أنا و«أم السعد»... كنّا من الأوائل»...
مقتطفات من شهادة المناضلة خديجة رابح كما جاءت في كتاب «جذور الحركة النسائية بتونس» للكاتبة ليليا العبيدي..
اسم جدّي محمود صويلح، من أهالي المطوية. حارب في عهد الاستعمار وأذاق فرنسا الأمّرين. كان يقول عندما استعمرت البلاد: «لا نحتمل دخول فرنسا الى بلادنا، ولن نرضخ لها».. تجمع الشجعان وهبّوا جميعا لمحاربتها عندما دخلت تراب قابس. وقد استخدموا لمواجهتها أسلحة تقليدية كالبندقيات الرشّاشة.
وأذكر أنّ جدتي حكت لي مرّة عن دور النسوة في المقاومة إذ كنّ يحملن الماء للمجاهدين. وقد جاهدت كل من الـ«منزل» و«جارة» و«الحامة» و«النحال» من البحر الى البرّ، إضافة الى «المطوية» التي قاومت وحدها فرنسا مدّة ثلاثين يوما. وفي آخر الأمر ضبطوا موعدا مع أعيان البلاد، تمّ خلاله إيقاف الاصطدام مع فرنسا لا سيّما وأنّ قوات هذه الأخيرة قد انتشرت في كامل أنحاء قابس ولم يبق في المواجهة إلاّ أهالي المطوية. وتمّ إيقاف القتال خوفا من أن تفتك فرنسا بالرجال ثم تعذب النساء.
عندما هرب جدي الى طرابلس اصطحب معه والدي الذي لم يتجاوز بعد الخمس سنوات، وكان يقول: «لن أبقى في بلاد دخلها النصارى». وصاحبته بقية العائلة إلى ليبيا حيث بقي ثلاث سنوات أنجب خلالها ثلاثة أبناء، ولم يرجع الى البلاد الا بعد أن أرسلوا إليه وفدا اقنعه بالعودة.. وكنّا ننتهز الفرص للخدش في سياسة فرنسا والتنديد بممارساتها لأنّها عذبت أجدادي. كما طالتنا الوان من التنكيل: من الضرب المبرّح الى دفع الأداءات المجحفة إلى إتلاف الأرزاق والاستيلاء عليها.
لقد شاركت أنا وابنة عمي «أم السعد» وكنّا من الأوائل اللائي ساهمن في الحركة الوطنية، التي كانت تخلو آنذاك من العنصر النسائي. إنّ «أم السعد» وطنية وشجاعة، وقد عاشت أرملة. وأذكر اليوم الذي خبأت فيه «أم السعد» سي الحبيب وقد بذلت من أجل ذلك جهدا كبيرا.
لمّا شرعنا في التحرك قدم إلينا رجل وقال: «إنّ علالة البلهوان في طريقه للمحاكمة» فاصطحبت «أم السعد» واثنتي عشرة امرأة أخرى، تنكرنا ووضعنا «أغطية» على رؤوسنا. وأقبل مئات من تلاميذ جامع الزيتونة. وتصدّوا للأمر القاضي بمحاكمة علالة البلهوان محاولين تعطيل السيارة التي تحمله ممّا تسبب في مناوشات عنيفة مع جنود الاحتلال أزهقت على إثرها الأرواح وسال الدم من «القصبة الى باب سويقة». خرجنا وقد حمي وطيس المعركة فهربنا ثمّ عدنا الى المنزل.
لقد تعرفت على شاذلية بوزقرو في حادثة الحزب. وقد زرت سي الحبيب صحبة «ام السعد» عند عودته. وقد طلب منّا أن نكوّن شعبة نسائية عرفانا منه وتقديرا لشجاعتنا وشجاعة المطوية. فقبلنا اقتراحه بكل سرور، وأضحينا نلقي الخطب بمعية شاذلية بوزقرو وسعيدة واصفين ظلم فرنسا واستبدادها، في حين أنّ البلد بلدنا والرزق رزقنا. وقد قمنا باجتماعاتنا الأسبوعية بنادينا حذو مقام سيدي محرز. وفي الأثناء ازداد عدد المشاركات شيئا فشيئا، الأمر الذي أجبرنا على الانتقال أحيانا الى زاوية سيدي إبراهيم الرياحي وكانت خطبنا تقابل بالتصفيق والهتاف باسم بورقيبة.
كنت أرتدي دائما «السفساري» ووجهي مغطى، ثمّ رفعت الحجاب، فحتى لو أخذوا لي صورة تدينني فذلك لم يعد يخيفني..
وكنا قد أعلنا إضراب الجوع نساء ورجالا، بجامع الزيتونة، عندما أوقفوا الرئيس مدة ثلاثة أيام إلى أن أصبحنا نتساقط الواحد تلو الآخر من شدّة الوهن.
وبعدها أضربنا عن استعمال «الترمفاي» لمدة ثلاثة أيام أخرى. لقد كوّنا مجموعة تتألف من امرأتين ورجل في كل محطة لمنع كل شخص تونسي يحاول امتطاء القطار وذلك حماية للإضراب. وأذكر أنّني أمرت شخصا كان يرتدي «برنسا» بالنزول وذلك بمحطة القصبة، وكنت ألحّ عليه أن ينزل، فأبى. عندها طرحته أرضا وأشبعته ركلا إلى أن فاته «الترمفاي». لقد تحوّل قلبي في تلك الفترة الى قلب أسد.
لقد انتحلنا صفة بائعات الجرائد كي نصل جامع القصبة. وعند وصولنا وجدنا بعض التلاميذ وقد اختلفوا فيما بينهم فتدخلنا، موضحات لهم أنّه لا طائل من خصامهم والبلاد في حالة حرب. وبينما نحن كذلك إذ بسيارة شرطة تمر وبها وطنيون قبض عليهم وقد كانوا ينشدون «حماة الحمى»، وكانت من بينهم شاذلية بوزقرو. عندها تمنيت لو كنت معها. وكان لي ذلك عند وصولي للمحطة الثانية حيث تمّ إيقافي. وما كاد الليل يجنّ حتى التقينا واجتمعنا مع بعضنا البعض.
عندما قامت مظاهرة عندما قدم «هوت كلوك». توجهنا على إثرها الى دار الباي في قرطاج حيث وقفنا نترقبه. فوقع طردنا فقصدنا منزل «صوفية» إلى أن حلّ ركب «هوت كلوك». عندها خرجنا صارخين : يسقط الاستعمار ويحيا بورقيبة... وقد أغضب هذا «هوت كلوك» الذي كان يهدد بالحرب. فأمر بإيقافنا. عندها تدخل الباي ومنعه من ذلك معتبرا إيّانا بناته لما عهده فينا من شجاعة.
• ولدت خديجة رابح بالمطوية سنة 1910
•ولدت أمّ السعد يحيى بالمطوية سنة 1898